أهلا بنافخي الصفافير بديلا للصمت

 

وائل جمال

الشروق

30 مارس 2010

نافخو الصفافير هى الترجمة للكلمة الإنجليزية Whistle Blowers، التى تعنى المُبلِّغين من داخل الشركات والهيئات عن الفساد والمخالفات القانونية. وتقول منظمة الشفافية الدولية فى تقرير لها الاسبوع الماضى عن حماية المبلِّغين فى 10 دول أوروبية إن هؤلاء يلعبون «دورا حيويا فى كشف الفساد والتواطؤ وسوء الإدارة وفى منع الكوارث الناتجة عنها جميعا». وبالفعل كان عن طريق المبلِّغين ممن صحت ضمائرهم ان كشف العالم عن محاولة التغطية على مرض السارس وعن عدد من ممارسات الشركات الضارة بالبيئة والإنسان فى الولايات المتحدة والعديد من قضايا التلاعب والمخالفات الحكومية والخاصة فى جميع نواحى المعمورة.

وتستنتج الشفافية الدولية فى تقريرها، الذى جاء تحت عنوان «نافخو الصفافير.. بديل للسكوت» انه برغم ان اجهزة مكافحة الفساد حول العالم صارت تولى أهمية متزايدة للمبلغين، وان الاتفاقات الدولية باتت تفرض على الدول الموقعة عليها ان تطبق تشريعات ملائمة للتعامل معهم، وان عددا متزايدا من الحكومات صار مستعدا لعمل ذلك بالفعل، إلا أن التقصى الذى قام به التقرير فى 10 دول أوروبية منها إيطاليا وررومانيا وأيرلندا، كشف عن ان هذه التشريعات مفتتة وتنفيذها ضعيف ومحدود.

وفى مصر، فإن الوضع ربما اسوأ من ذلك. فبينما ينظم قانون العقوبات موضوع المبلِّغين فى قضايا الرشوة فى مادتيه 107 و108 و108 مكرر، هناك تنظيم آخر للإبلاغ فى قانون المخدرات. أما فى الممارسات الاقتصادية، وهى مجال هائل للفساد المنظم، الذى فى غالب الأحوال لا يتعلق إلا بتداول معلومات أو بتناقض المصالح، أو بالتلاعب فى الأسعار، أو حتى بما يسمى بالمحاسبة الخلاقة، التى تظهر عكس الحقيقة محاسبيا دون مخالفة صحيح القانون، فالأمر بدائى للغاية وأكثر تفتتا وغموضا.

ولنا فى مناقشات قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار ذكرى نافعة فى هذا الشأن. فقد أصر البعض (منهم رئيس لجنة الخطة والموازنة الحالى ورجل الأعمال أحمد عز) على عدم إعفاء المبلغ عن الممارسات الاحتكارية من الغرامة، التى تم تخفيضها، على العكس من النسخة المقترحة للقانون التى تقدمت بها وزارة التجارة والصناعة.
وهكذا فليس غريبا ان تكون التوصية الأولى لتقرير لجنة الشفافية والنزاهة الحكومى الثالث، والصادر مساء أمس الأول، وانفردت به «الشروق» صباح الأحد، تتعلق بالموضوع.

«اهتمت المشورة الأولى بدعم الإطار القانونى المعنى بتحقيق الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد، حيث تم اقتراح آليات لدعم التشريعات القائمة خاصة تلك المتعلقة بحماية الشهود والمبلِّغين بما يتماشى مع خطورة وقائع الفساد وبما يشجع المواطنين على رصد المخالفات والإبلاغ عنها بدون خوف من عقاب أو إحساس بالخطر، كما تضمنت استحداث آليات جديدة لتفعيل إدارة والتعامل مع شكاوى المواطنين بالتعاون مع الأجهزة الرقابية والجهات المعنية بتلقى شكاوى المواطنين وهو نظام الأمبودسمان»، قال التقرير.

جدير بالذكر ان الاقتراح بنظام الامبودسمان جاء فى التقرير السابق للجنة، ويقول التقرير الحالى انه اثار جدلا (لا أعلم أين بالضبط)، لكن الواضح انه ليس على جدول أعمال مجلس الشعب ولا الحزب الحاكم فيما يظهر منه للرأى العام.

ومن المفترض ان يوفر هذا النظام آلية للاستماع إلى الشكاوى المرفوعة إليه من أفراد المجتمع مع مراعاة المساواة بينهم، وان يكون له الحق فى التحقق والتحقيق فى المظالم، من خلال إجراء مناقشات مع موظفى الموارد البشرية، والرئيس الأعلى للموظف أو غيره من كبار المديرين. ويبدو هنا أيضا ان هناك حاجة للمزيد من أجل التعامل مع الفساد الكبير: تلاعب بنوك الاستثمار الكبرى فى الأسواق، تسرب معلومات الشركات الذى يجرد صغار المستثمرين من مدخراتهم لصالح الكبار..الخ.

وفى هذا الاطار يمكن المقارنة بين حالتين حدثتا فى نفس الوقت تقريبا منذ 3 أسابيع. الحالة الأولى فى الولايات المتحدة وتتعلق ببنك ليمان براذرز العتيد الذى أفلس فى الأشهر الأخيرة من عام 2008. والحالة الثانية عندنا فى مصر، وهى استقالة منصور الجمال رئيس شركة بايونيرز، أكبر بنك استثمار فى السوق من حيث تعاملات صغار المستثمرين من منصبه، والذى يوشك على الاندماج مع أحد أكبر بنكى استثمار فى مصر وربما العالم العربى مشكلين أكبر كيانات السوق، وذلك احتجاجا على تلاعب أعضاء مجلس الإدارة فى السوق.

ورغم ان الموضوع فى الحالتين مختلف. ففى الأولى هو متعلق بممارسات حسابية، لا تخالف القانون، هناك شك فى انها اسهمت فى اخفاء حجم المخاطر عن السوق والمساهمين. وفى الثانية، تتعلق بالبورصة والتلاعب فى الاسهم. إلا أن هناك تداخلا ومقارنة واجبة فى قضيتين. الأولى هى التعامل مع المبلِّغ نافخ الصفارة: كان موظفا فى ليمان براذرز وجه مذكرة داخلية بهذا الشأن قبيل انهيار البنك. وفى الثانية رئيس الشركة ذاته. أما الثانية فهى الافصاح عما يحدث.
ففى الحالة الأولى ليس هناك ما يخالف صحيح القانون. لكن محكمة الإفلاس كلفت شركة قانونية خاصة بالبحث فى الموضوع. واطلعت الشركة على آلاف الوثائق وحاورت مئات الموظفين حتى خرجت بتقرير من 2200 صفحة منشور على الإنترنت لمن يرغب فى الاطلاع عليه، موصية بتغيير التشريع لتجريم ممارسات قيادات ليمان براذرز، على أساس المذكرة الداخلية للموظف.

والآن بدأت المباحث الفيدرالية فى التحرك جنائيا متزامنة مع استدعاء رئيس البنك للجنة استماع فى الكونجرس الأمريكى. واحتل الموضوع صفحات كاملة فى الجرائد الأمريكية ونشرت عنه صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية ملفا كاملا. والآن يدور الجدل حول كيفية تعديل القانون لمنع هذه الممارسات المحاسبية.

هذا عن قلب الرأسمالية النابض. أما فى مصر، وقد مر الآن 3 أسابيع على الاستقالة، فلم تحرك تصريحات رئيس الشركة ساكنا لدى أحد. ولم تنشر الصحيفتان اليوميتان المتخصصتان الخبر على صفحاتهما. ولم يخرج اى بيان رسمى من أى جهة رقابية، سوى ايقاف التداول على سهم بايونيرز بعد نشر الخبر فى «الشروق». وعندما سارعت الشركة بعقد اجتماع قبلت فيه الاستقالة عاد التداول وكأن سبب الاستقالة هو المرض، أو ملل رئيس الشركة من عالم الأعمال.

بل إن الشركة نفسها لم تعترض على الاتهامات، ولم ترفع قضية على الرجل لاتهامه قياداتها بالفساد والتلاعب وهو ماكان ليضر أداء السهم. بل ان أحد قياداتها، عندما سئل فى حوار صحفى عن سبب استقالة الجمال، قال انه لا يعلم. وزاد الأمر بان توقف رئيس الشركة المستقيل عن الرد على محاولات صحفيى «الشروق» الاتصال به. وكأن الأمر سينتهى إلى غير رجعة، باتفاق كل الاطراف.

يقول تقرير الشفافية الدولية عن المبلِّغين انه فى أغلب الأحوال يعرض هؤلاء انفسهم لمخاطر شخصية عندما يتحدثون ضد رؤسائهم وزملائهم وشركائهم، وانه عوضا عن الاستماع اليهم فانهم يواجهون بعدم الاكتراث وعدم الثقة فى معلوماتهم، ولا يتم التحقيق فيما يبلغون عنه بشكل مناسب.

وفى مصر، التى صدرت عن الفساد فيها خلال اسبوع واحد 3 تقارير، من الشفافية الدولية والحكومة المصرية والخارجية الأمريكية، فإن هناك اجماعا على ان الفساد تحدٍ أساسى أمام التنمية والتطور الديمقراطى. فما احوجنا لهؤلاء المبلِّغين ليكشفوا لنا ليس فقط عن رشوة موظف السجل المدنى أو عسكرى المرور. وانما بالأساس عن مخالفات هؤلاء الذين يتلاعبون بالمليارات فى الأسواق بفسادهم الأنيق.

وما أحوجنا لاطار قانونى يحمى نافخى الصفافير ويحمينا جميعا من عالم الشركات، الذى يتضخم فى بلادنا دون ضوابط على نفس درجة تطوره. وساعتها ستتحول صفافير المبلِّغين إلى موسيقى.

 

 

 

 

1 Comments

  1. hahaha I love the last sentence. Right you are, all Egypt would be orchestrating by then. I think that a law to protect whistleblowers is great, yet not enough for Egypt. People should be promised a percentage of the money or something of the like, it won’t take 1 week and every corruption will surface up.

شكرا على تعليقاتكم