حان وقت استرداد اقتصادنا من المخلوقات الفضائية

وائل جمال

الشروق

أول مايو 2011

فى كل مقابلة خارجية لرئيس الوزراء عصام شرف أو أحد وزرائه الاقتصاديين، لابد وأنك ستجد هذا التأكيد على التزام مصر بـ«الاقتصاد الحر»، فى بعض الأحوال قد يقترن هذا الاقتصاد الحر بكلمة «النزيه»، وفى أحوال أخرى بالعدالة الاجتماعية، لكن فى جميع الحالات تجد الحكومة (حكومة تسيير الأعمال) حاجة لهذا التأكيد الاستراتيجى، فى مواجهة شبح عودة القطاع العام، والذى يقدمه البعض كبديل لسياسات العقد الأخير من حكم مبارك، وهى الأعمق فى تطرفها لصالح أسبقية الربح والسوق، وهكذا تعود لنا تلك الثنائية التاريخية بين رأسمالية الشركات واقتصاد السوق والقطاع العام، كبديلين لا ثالث لهما فى إدارة الاقتصاد.

أليس لدينا اختيار آخر؟

فجرت الأزمة العالمية فى 2008 المعاقل الفكرية الأخيرة لأنصار سمو وكفاءة الأسواق المطلقة فى تحديد الخيارات الاقتصادية للمجتمع البشرى، لقد كشف الانهيار التاريخى فى أسواق المال أن اليد الخفية أعطت التقدير الخاطىء لقيمة أصول مالية بتريليونات الدولارات، ودفعت البنوك وشركات التأمين لسياسة خاطئة فى تمويل السكن لملايين الفقراء الأمريكيين، تحولت إلى سياسة وحشية بعد أن عادت وانتزعت منهم منازلهم لتنقذ ما يمكن انقاذه من الأرباح، قبل أن تنفجر الفقاعة المالية الهائلة فى وجه الجميع مخلفة ملايين العاطلين والفقراء الجدد فى العالم كله.

فرضت هذه التطورات مراجعة كبرى فى الأدبيات الاقتصادية، وصلت إلى حد إعادة النظر فى فكرة كفاءة الأسواق من الأصل، وظلت البدائل محل خلاف. فى أجزاء من العالم، كمصر ماقبل سقوط مبارك، اعتبر أصحاب المصالح وسياسيوهم أنه لا شأن لهم بما يجرى ومضوا فى صنيعهم (ولعلنا نرى الآن إلى أين جرهم ذلك)، فى أماكن أخرى، أعادت الرأسمالية اكتشاف الدولة مرة أخرى، ليس فقط فى صورة المتدخل بسياسات الأمان الاجتماعى، ولضمان العدالة الضريبية وغيرها.

وإنما أيضا عبر التأميم واعادة انخراط الشركات المملوكة للدولة فى النشاط الاقتصادى، لدرجة أن قائمة فوربس لأكبر 500 شركة فى العالم صارت تضم عددا لابأس به من شركات القطاع العام الروسية والصينية والبرازيلية والهندية، وهى شركات كفئة وتنافسية حتى على المستوى العالمى.

لكن الأهم من ذلك هو أن جموع المنتجين، الذين استبعدتهم سياسات تحرير الأسواق على النمط الليبرالى الجديد، فى وصفتها المعممة عالميا، دخلوا ساحة التفكير والفعل، لم تعد الملايين مكتفية بدخول الدولة محل رأس المال الخاص، حتى إن كانت جهاز الدولة تحت الحكم الديمقراطى، وحتى إن كانت أيدت تأميم شركاتها من أجل ضمان حد أدنى من الأمان الوظيفى، والحقوق التى لم يكونوا يحصلون عليها فى ساحة حرب الأرباح المستعرة. تعلم جمهور المنتجين، الذين أسقطوا أنظمة الليبرالية الجديدة فى أمريكا اللاتينية بانتفاضات بطولية شبيهة بما حدث فى بلادنا، أنه ماحك جلدك مثل ظفرك، وهكذا بدأ التفكير والسعى نحو نماذج اقتصادية أكثر ديمقراطية فى الملكية وفى الإدارة، تعيد حق القرار الاقتصادى لأصحابه كما أعادته فى ملعب السياسة الحزبية والبرلمانية.

وهكذا بزغت مبادرات عديدة فى الحكم المحلى وفى الإدارة الذاتية للمنشآت الاقتصادية المغلقة بالاستيلاء عليها، كما عادت الحيوية لهذا النموذج الاقتصادى واسع الديمقراطية، الذى توارى قليلا أمام سطوة الشركات الكبرى: التعاونيات.

نموذج اقتصادى ديمقراطى

فى مصر تعيد كلمة التعاونيات فى ذهنك ذكريات قديمة عن الجمعيات فى الزراعة، التى صارت الدولة مسيطرة عليها، لكن الوضع مختلف فى العالم حتى قبل الأزمة العالمية الأخيرة. صحيح أن التعاونيات نشأت تاريخيا فى الأصل من جهود الناس العاديين خلال الكساد الاقتصادى لكنها حافظت على وجودها على مدى عقود، حتى فى وجه أعتى غزوات الشركات الكبرى. وتأتى الزراعة على قمة القطاعات التى أثبتت التعاونيات فيها كفاءة بالغة. وتدير التعاونيات مثلا 90% من إنتاج الألبان فى السويد، و95% زراعة الأرز الاستراتيجية فى اليابان، و75% من إنتاج غرب كندا من القمح والزيوت، و99% من إنتاج السمك اليابانى. كما أنه فى أوروبا هناك 10.6 مليون تعاونية إسكانية تصل إلى حد المساهمة ب15% من الإسكان فى النرويج و25% من الإسكان الجديد فى تركيا خلال ربع قرن. ومع الانتفاضات فى امريكا اللاتينية بدأت تظهر حركات شعبية واسعة لإدارة الاقتصاد بشكل تعاونى فى الصناعة.

ويتسم اقتصاد التعاونيات بعدة مزايا على غيره من أشكال الإدارة والملكية. فهو نظام قائم على الاختيار الحر والعضوية المفتوحة المبنية على المصلحة المباشرة لأطرافه من المنتجين وبالتالى فهو يسمح لهؤلاء بالسيطرة الديمقراطية على القرار الاقتصادى عبر القادة المنتخبين بينما يشارك الجميع بشكل مباشر فى مناقشة القرارات والمحاسبة عليها.

أيضا يشارك الجميع فيها بالعمل بينما يحصلون على مقابل للمساهمة برأس المال الذى يتحول لملكية عامة للتعاونية بينما توزع الفوائض على الأعضاء الذين يقررون استخدامها فى تطوير الإنتاج بشراء الماكينات أو التوسع.. إلخ.

تتميز التعاونيات بالاستقلالية برغم أنها تتعامل مع الحكومة ومع مصادر التمويل الخارجى.

وتوفر التعاونيات التعليم والتدريب لأعضائها وقياداتها المنتخبة والمدراء المعينين.

كما تقول لنا التجربة العالمية إن التعاونيات تخدم أعضاءها لكنها أيضا تعمل كتفا بكتف مع التعاونيات الأخرى مشكلة اتحادات تجعل منها قوة اقتصادية ديمقراطية مؤثرة.

وتؤكد لنا التجربة الحديثة فى الأرجنتين وبوليفيا وغيرها أن التعاونيات تضع على أجندتها تنمية المجتمعات المحلية التى تعمل بها لارتباطها المباشر بحياة أعضائها، على العكس من الشركات الكبرى التى قد تتبنى مشاريع مضرة للبيئة المحلية على غير رغبة السكان، كما شاهدنا فى معركة سكان دمياط مع شركة أجريوم قبل سنوات.

هذه الحيثيات هى التى أدت إلى نمو هائل لهذا النموذج بتنويعات وتجارب مختلفة، دعمه النجاح الكبير على الأرض، لتنظم التعاونيات حاليا نشاط 800 مليون شخص فى 85 بلدا.

فلنستعد الاقتصاد من الفضائيين

فى 5 نوفمبر 1894 نشأت مؤسسة الائتمان الزراعى فى فرنسا، كتعاونية للعمال الزراعيين يقومون من خلالها بإقراض بعضهم البعض لخدمة الإنتاج الزراعى. والآن تحولت هذه المؤسسة، بعد أن تغيرت طبيعتها تماما، إلى بنك «كريديه أجريكول»، المؤسسة المالية العابرة للقوميات، التى تمتلك فرعا فى مصر يساهم فيه أباطرة السلطة والثروة ممثلين فى مجموعة منصور والمغربى. وبينما دمرت الأزمة المالية التى فجرتها مثل هذه المؤسسات المالية الكبرى حياة الملايين، هناك مؤسسات مالية تعاونية تحمى عيشهم فى العالم النامى والفقير فى آسيا وغيرها عبر التمويل المايكرو بـ«الجمعية»، كما هو الحال فى ريف مصر وبين فقرائها، فى واحدة من أهم صور الاقتصاد المالى الإنسانى وأكثرها انتشارا.

ولا أروع فى توصيف الفارق بين النوعين من تشبيه الصحفى الكندى الكبير وايد رولاند فى كتابه «شركة الطمع» Greed، Inc.»»، للشركة الرأسمالية الكبرى فى عالم الليبرالية الجديدة، وهى أكبر وأقوى مؤسسات العصر، بالمخلوقات الفضائية فى غربتها عن المجتمعات التى تعمل فيها وبتجرد معيارها الأول فى الاستثمار والإنتاج، أى الربح وتراكم الربح، من التواصل الإنسانى مع احتياجات البشر.

إن التعاونيات لا تقضى على السوق الحر ولا على الرأسمالية، لكنها تمثل نموذجا لما يجب أن تسعى إليه ثورتنا وحكومتنا المنتخبة ديمقراطيا فى مصر: اقتصاد ديمقراطى منتج وإنسانى يستلهم روح المبادرة والفعل الجماهيرى الحر المباشر الذى كشفت عنه ثورة يناير، ويوجهه لمصلحة جموع المنتجين ومصلحة المجتمع، بقرار جموع المنتجين والمجتمع، بدون وصاية القلة وأخطبوط مصالحها الضيقة، سواء كانت من وجهاء الأعمال أم من بيروقراطية القطاع العام.

شكرا على تعليقاتكم