ملف: سكك حديد مصر.. طريق طوّالي إلى الآخرة.. وعمال يناضلون ضد الاستغلال

وائل جمال

الاشتراكي

أول أكتوبر 2006

مقدمة

فجر حادث قطاري قليوب أزمة السكك الحديدية في مصر بعد أن ظلت كامنة على مدى أربع سنوات منذ كارثة قطار الصعيد المفجعة. ومنذ الحادي والعشرين من أغسطس أصبحت السكك الحديد منطقة احتقان جديدة تضاف لأزمات حكومة نظيف. فالسائقون الذين ضاقوا ذرعا بتحميلهم مسئولية سياسة مبارك تجاه واحدة من أهم الخدمات بالنسبة للملايين بدأوا يتحركون دفاعا عن أنفسهم ومطالبين بحقوقهم المهدورة على مدى سنوات. وبمعجزة تم إنقاذ ما يزيد على أربعة آلاف شخص في قطارين اشتعلا بحرائق تمت السيطرة عليها بسرعة قبل أن تنتج كارثة جديدة. أما الحكومة فقد حاولت استغلال الموقف بإلقاء المسئولية تارة على الحكومات السابقة التي كانت خاضعة للبيروقراطية وتارة أخرى على إهمال الموظفين الصغار. لكن الأهم هو أن البرجوازية وحكومتها تحاول استغلال الأزمة صنيعتها لتدفع بخطط خصخصة تضمن المزيد من الأرباح لرجال الأعمال على حساب المستهلكين. الاشتراكي تفتح هنا هذا الملف الشائك.

إصــلاح منصــور..لمــن؟

كعادة البرجوازية كطبقة حاكمة في العالم كله حولت البرجوازية المصرية كارثة قطاري قليوب إلى أرضية ومبرر لدفع خططها فيما تسميه تحرير وإعادة هيكلة قطاع النقل. الخطوة الرئيسية في هذا الإطار كانت ما سمي قانون إصلاح السكك الحديدية الجديد والذي أعطى القطاع الخاص، بشركاته المحلية والأجنبية، حق إقامة خطوط جديدة وإدارتها والاستفادة منها لمدة مائة عام. وينشيء القانون الهيئة القومية للسكك الحديد ويمنحها حق إنشاء شركات مساهمة بمفردها أومع شركاء آخرين، وجواز تداول أسهم هذه الشركات بمجرد تأسيسها، وإصدار سندات محلية بعد موافقة وزير النقل. كما يعطي القانون الجديد الهيئة حق تحديد أسعار خدماتها بما يحقق لها الاكتفاء الذاتي حاليا. ويصدر بهذه الأسعار قرار من وزير النقل بعد العرض على مجلس الوزراء.هذا التطور يجيء ليسمح بما كان محظورا في القوانين السابقة وهو إطلاق المجال للقطاع الخاص للاستثمار في السكك الحديدية لكن ما سيأتي أعظم.

الوضع المتهالك للخدمة: قول حق يراد به باطل

نقطة الإنطلاق لمشروع البرجوازية المصرية الجديد بالنسبة للسكك الحديدية هي التدهور العنيف في هذه الخدمة والذي بلا شك يمكن إعتباره علامة فشل جديدة لنظام مبارك. ويرصد تقرير أخير أصدره المعهد القومى للنقل، وسربه الوزير نفسه للصحافة، ما آلت إليه الأوضاع فيقول إن 50% من خطوط السكك الحديدية يستخدم كأماكن انتظار للقطارات القديمة المتهالكة، وإن 95% من عربات نقل البضائع لا تستغل بالشكل الأمثل، وأن 50% من عربات الركاب خارج الخدمة وتحتاج إلى عملية إحلال سريعة، كما أن 60% من جرارات قطارات السكك الحديدية خارج الخدمة، وإنه حتى يتم تطوير الخدمة فى قطاع السكك الحديدية فإنها تحتاج إلى 8.2 مليار جنيه خلال السنوات الخمس المقبلة.

إلا أن البرجوازية المصرية، التي يمثلها في هذا القطاع رجل أعمال أريب وصاحب مصالح واستثمارات ضخمة فيه هو محمد لطفي منصور، تركز على الجانب المالي ملقية باللائمة كل اللائمة على فكرة إدارة الخدمة من القطاع العام. حيث تحقق هيئة السكك الحديدية عجزا سنويا قدره مليار وسبعمائة ألف جنيه تغطيه الدولة من موازنتها. ويرجع منطق خطة الإصلاح الجديدة هذا العجز إلى عناصر شبيهة بما طرح في خصخصة السكك الحديدة في بريطانيا: عدم قدرة الدولة على ضخ الاستثمارات الضخمة المطلوبة، لكنه يضيف إليه الدعم الحكومي المقدم لأسعار التذاكر لأسباب اجتماعية. ومن ثم وفي هذا السياق فإن خطة الإصلاح تقدم نفسها كخطة إعادة هيكلة ذات طابع إداري مالي لتحويل هيئة السكك الحديدية من هيئة خاسرة إلى رابحة وقادرة على سداد قروضها بنفسها، والتي تبلغ 10 مليارات جنيه. وتنبني الدعاية للخطة بالطبع على نفس ما انبنت عليه في بريطانيا: المنافسة ودخول القطاع الخاص سيعنيان رفع الكفاءة وتحسين الخدمة للمستهلك ورفع عبء تمويلها من على الدولة لصالح بنود أخرى. لكن هل هناك جديد حقا في ذلك؟

كعكة طهيت على مهل

عقب حادث قطار الصعيد في فبراير 2002 أعلن عاطف عبيد رئيس الوزراء ـ آنذاك ـ أن الحكومة ستبدأ فورا في تنفيذ خطة لتطوير السكك الحديدية وأن هناك 10 دراسات لتطوير السكة الحديد، من بينها 7 دراسات أجرتها بيوت خبرة أجنبية، وأن هذه الدراسات تضمنت ضرورة تحديث نظم الإدارة واستثمار الأصول العقارية لهيئة السكة الحديد وتجديد العربات والخطوط وإحلال وتجديد الجرارات، وتطوير المحطات وإنشاء شركات لصيانة القطارات وتطوير قطاع نقل البضائع، ومنذ ذلك الوقت وبالرغم من مرور 4 سنوات كاملة إلا أن أياً من بنود تلك الخطط لم ينفذ. ولم تكن هذه مصادفة بالطبع. ويمكن الإشارة هنا إلى ما يسمى بالاستراتيجية أحمر أو الاستراتيجية “صفر”، وهو اختراع صيني لتبرير وتسهيل الخصخصة. في هذه الإستراتيجية تقوم الدولة عمدا باتباع سياسات من شأنها إفلاس المنشأة الاقتصادية ومن ثم يصبح بيعها أسهل. وبالنظر لما نفذ بالفعل من سياسات على مدى هذه السنوات الأربع التي أعقبت حادث قطار الصعيد نستطيع أن نرى بوضوح أن هذه الاستراتيجية كانت جزءا لا يتجزأ من الخطط المطروحة حاليا.

على سبيل المثال كانت إحدى السياسات اليتيمة التي قامت بها الحكومة السابقة خطة اعداد وتجهيز وتمثلت في الغاء عربات الدرجتين الثانية والثالثة والتي يصل عددها الي أكثر من 2350 عربة واستبدالها بما يسمي بـ “العربات المميزة” لتنضم الي عربات الدرجتين الاولي والثانية مكيفة وهو ما يعني تحويل 50% من العربات الي مميزة. وتندرج هذه الخطة تحت بند التركيز على الخطوط التي تخدم الأغنياء. من ناحية أخرى تبنت الدولة ما اسمته الشراكة بين القطاعين العام والخاص في قطاع النقل بالسكك الحديدية وهو ما تجلى في مشروع تسيطر عليه مجموعة الخرافي لإنشاء خطين واحد من أسوان لمرسى علم والثاني من الإسكندرية للقاهرة. ثم أنشأت الشركة المصرية للسكك الحديدية والنقل في 2002 والتي أسست شركة أخرى لنقل البضائع، يمتلك نجيب ساويرس فيها 51% من الأسهم، بينما الشركة المصرية نفسها لها 10% من القيمة، وشركة لهيطة تمتلك 39% من القيمة، هذا إلى جانب مشروع لإنشاء سكك حديدية فى المنطقة من عين شمس إلى مدينة العاشر من رمضان بطول 125 كم وبتكلفة 2.3 مليار جنيه عهد إليه بالكامل للقطاع الخاص.

هكذا كان الوضع على مدى السنوات القليلة الماضية: خطة “لتفطيس” الهيئة الحكومية ومضاعفة مشاكلها، وفي الوقت نفسه دفع تدريجي بالقطاع الخاص في إنتظار اللحظة الملائمة لاستيلائه على الكعكة كاملة. ولا شك في أن هناك الكثير مما يثير شهية رجال الأعمال في هذا القطاع الحيوي. حيث يصل عدد مستخدمي السكك الحديدية من الركاب المسافرين لمليون وأربعمائة ألف شخص يوميا. ويمكن تخيل هذه الخدمة ذات الطابع الاحتكاري بالطبيعة في يد القطاع الخاص الذي سيقوم دون أدنى شك برفع الأسعار (بعض تقديرات بيوت الخبرة التي تتعامل معها هيئة السكك الحديدية تقيم تذكرة القطار المكيف من الإسكندرية للقاهرة في هذه الحالة ب 495 جنيها بينما تصل حاليا لـ 35 جنيها). لكن الكعكة الأكبر والأهم هي النقل. فأقل قطار يحمل ألف طن، وهو أقل فى التكلفة من نقل البضائع بالسيارات بـ 50%.

إصلاح البرجوازية وخصوصية القطاع

أحد أهم أسس خطة إصلاح السكك الحديدية التي تطرحها البرجوازية المصرية هو أن الاستثمارات الضخمة التي يحتاجها القطاع سيقدمها رأس المال الخاص. ويمكن أن تكون هذه الكذبة الأكبر. فهذا القطاع بطبيعته –وكما أثبتت تجربة بريطانيا بالبرهان الساطع- كثيف رأس المال ويحتاج لاستثمارات ضخمة مقابل دورة بطيئة طويلة المدى لدوران رأس المال. ولا يتصور أن الرأسمالية التي تحجم عن الاستثمار في صناعات سريعة في دورة رأسمالها ومضمون الربحية كالورق والسكر سوف تقدم على ذلك في السكك الحديدية. ويبدو أن دولتنا ورجال أعمالها متفقون منذ اللحظة الأولى على ما اضطرت له حكومة بريطانيا. فالدولة المصرية لن تتوقف عن التمويل كما لم تتوقف حكومة بلير عن التمويل. لكن الفارق هو أن كعكة القطاع الخاص ستكبر وأن الأرباح التي سيحصدها في جيبه ستكون أعظم.

الشيء الثاني الذي تعنيه خطة الإصلاح هذه هو تحرير أسعار التذاكر. وإذا وضعنا في الإعتبار الطبيعة الاحتكارية للقطاع، فلن يكون في قدرتك استخدام قطار آخر لو لم تعجبك طبيعة الخدمة أو أسعار التذاكر، وهو ما يعني أن فقراء مصر سيمولون من فتات الأجور التي ينتزعونها المزيد من أرباح رأسمالية منصور ورفاقه وهو الهدف الأسمى الأوضح وراء خطة الإصلاح المزعومة تلك.

والآن.. العمال في المواجهة مرة أخرى

على مدى السنوات الماضية، تحمل عمال السكك الحديدية عواقب إحجام الدولة عن التدخل للتعامل مع تدهور القطاع. لم يتوقف الأمر عند تدني مستويات الأجور وتراجع ظروف العمل وتقليل عدد السائقين، وإنما امتد أيضا لتحميل هؤلاء مرة بعد الأخرى مسئولية إنهيار منظومة السكك الحديدية وما يتبعه من كوارث.

وهكذا جاءت كارثة قليوب لتفجر ما كان مكنونا. فمنذ اللحظة الأولى للحادث، ومع محاولة الدولة كالعادة تحميل سائق القطار القتيل مسئولية الحادث، على العكس من كل التقارير الفنية، تجسد هذا الغضب المتراكم في حركة جديدة وليدة للسائقين.

وتحولت محطة مصر إلى ساحة معركة يومية بين السائقين، الذي صاروا يرفضون قيادة أي قطارات بها عيوب فنية، وبين الإدارة التي حاولت تحريض الركاب عليهم بإلقاء اللوم عليهم في تأخر القطارات عن مواعيدها.

وكانت أبرز الحوادث في هذا الإطار قبل أسبوعين حينما اعتدي ركاب القطار رقم ١٩٧ بالحجارة على سائق القطار رقم ٩٠٩ أثناء تحركه من محطة مصر متجهاً إلي الإسكندرية، وكسروا زجاج الجرار، وأصابوا السائق بجروح في الجبهة والرأس، وتم نقله إلي المستشفي. جاء تصرف الركاب بسبب إلغاء رئيس الهيئة رحلة قطارهم لصالح القطار ٩٠٩ الخاص برجال الأعمال. وترتب علي ذلك اعتصام أكثر من ٥٠ سائقاً احتجاجاً علي إصابة زميلهم، وتوجهوا إلي مكتب أشرف سلامة رئيس هيئة السكك الحديدية وطالبوا بتكذيب الاتهامات التي ضمها التقرير الفني لحادث قليوب بأن مستوي السائقين متدن وأنهم يتعاطون المخدرات أثناء عملهم، وشددوا علي إصدار بيان سريع من الوزارة بتبرئتهم من حوادث القطارات المتكررة لحمايتهم من غضب المواطنين.

كما طالبوا سلامة بأن يعلن أنهم يعملون علي جرارات نسبة الأمان فيها لا تزيد علي ٢٠%. ورد سلامة بأن التقرير الذي كتبته النيابة العامة ليس للهيئة حق الاعتراض عليه وفقاً للقانون، وطلب منهم منحه وقتاً كافياً لدراسة أوضاعهم ومطالبهم التي قدموها إليه في مذكرة منذ ١٥ يوماً. وقال لهم: إن نسخة من المذكرة أمام وزير النقل وأنه ينتظر الرد عليها. ووعدهم بتلبية جميع مطالبهم خلال الأيام الأربعة الأولي من شهر رمضان عندما يزورهم الوزير لتناول الإفطار.

لم يمنع ذلك السائقين من تنظيم عدد من الاعتصامات تضامنا مع زملائهم الذين حولوا للمحاكمة في قضية قليوب. وتحركت رابطة السائقين لأول مرة منذ سنوات مطالبة وزير النقل بضرورة التأمين علي السائقين ضد الحوادث والعجز والمرض، وإدراجهم وطوائف التشغيل الأخري علي قوائم تأمين الركاب في حالة الوفاة ليحصل علي ٢٠ ألف جنيه حيث يحصل السائق علي ٨ آلاف جنيه فقط. هذا إلى جانب المطالبة بعمل كادر خاص للسائقين مرة أخري مراعاة لظروف طبيعة عملهم، والذي كان قد ألغاه سليمان متولي وزير النقل السابق وقام بتطبيق قانون ٤٧ الذي يساوي بين السائق وجميع العاملين بالدولة. كما طالب السائقون بزيادة عددهم من ٤٥١١ سائقاً في الخدمة الآن إلى ٦٠٢٢ سائقاً وهو العدد الملائم للعمل على الخطوط الحالية. ووصل الأمر لحد التهديد بتنظيم اعتصام موسع أمام مجلس الشعب، للمطالبة بحقوق السائقين، ومحاسبة المسؤولين الذين يتسبب إهمالهم في موت زملائهم في حوادث القطارات.

وهكذا يبدو أن كارثة قليوب قد حركت المارد الغاضب خارج القمقم. لكن كما تعطي الطبيعة الهشة لقطاع السكك الحديدية، الذي يتأثر مباشرة بأي تحرك عمالي، قوة خاصة لتحركات العمال الأخيرة، فإن عليهم أن يتغلبوا على ضعف تنظيمهم وأن يتعلموا من دروس الماضي لكي يتطور تحركهم، أملهم الوحيد في تحقيق مطالبهم.

 

إضراب عمال السكة الحديد 1986.. دروس للحاضر

كان إضراب عمال وسائقي السكة الحديد، واعتصامهم في مقر الرابطة في عام 1986، أحد أهم الاحتجاجات العمالية التي شهدتها مصر في العقود الأخيرة. ولا تعود تلك الأهمية فقط لحساسية مرفق السكة الحديد، والارتباك الشديد الذي أحدثه الإضراب في أنحاء الجمهورية، ولكن كذلك لكمّ الخبرات والدروس التي اكتسبتها الطبقة العاملة عبر ذلك الإضراب.

الإضراب: الخلفيات والتطور

كان عام 1986 عاما خاصا في تاريخ الصراع الطبقي في عهد مبارك. فقد شهد إضراب إسكو الذي اقتنص الإجازات الأسبوعية مدفوعة الأجر لعمال مصر؛ وشهد إنتفاضة الأمن المركزي؛ كما شهد إضراب عمال السكك الحديدية التاريخي. ومنذ نهاية السبعينيات عمّت حالة من التذمر والسخط أوساط عمال السكك الحديدية نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة، وتدني أجور السائقين والمساعدين مقابل تضخم أجور المديرين، الأمر الذي كان ملازما لموجة الانفتاح الاقتصادي.

ومع بداية الثمانينيات بدأت المطالب في التبلور والوضوح، وزاد التفاف العمال (السائقون والوقادون) حولها. وفي عام 1982 تحديدا بدأت التحركات حين قام العمال بإضراب تباطؤي لمدة ساعتين للضغط على الإدارة والدولة معلنين مطالبهم، والتي كان أهمها عودة الكادر الخاص وتعديل جدول الأجور لتتناسب مع غلاء المعيشة، رفع حافز الكيلومتر من 11 مليم إلى 5 قروش، الحصول على نسبة من الغرامات على التذاكر، التأمين على السائقين ضد الحوادث والتشريك، وعدم تحميل السائقين تعويضات ضحايا الحوادث.

من ناحيتها تجاهلت الدولة وإدارة السكك الحديدية مطالب العمال على مدى سنوات، إلا أن العمال ازدادوا تماسكا والتفافا حولها. وظل الأمر بين جذب وشد حتى تم عقد اجتماع في 19 ديسمبر 1985 حضره وزير النقل والمواصلات ورئيس هيئة السكك الحديدية وممثلون عن السائقين. وفي الاجتماع، وافق الوزير على كافة مطالب السائقين وأصدر قرارا بتفرغ 3 سائقين لمتابعة المطالب مع رئيس مجلس الإدارة. واستبشر العمال خيرا وتوقعوا تحقق مطالبهم. ولكن الشهور مرت دون أي تقدم، الأمر الذي ساعد في تصاعد التذمر والغضب ليصل لقمته أثناء انعقاد الاجتماع الشهري لرابطة سائقي ووقادي السكك الحديدية في 2 يوليو 1986.

كان المناخ مهيئا تماما لتطوير موقف العمال، حيث احتشد حوالي 300 سائق في مقر الرابطة. وبعد التشاور أعلنوا الاعتصام في مقر الرابطة حتى يحضر المسئولين لمناقشة مطالبهم. وعلى أثر ذلك حضر نائب وزير المواصلات وكبار ضباط الداخلية لمقر الرابطة في محاولة لاحتواء الموقف، وابلغوا السائقين اعتذار الوزير عن عدم الحضور لانشغاله (بشرف مرافقة الرئيس السوداني)، وحددوا لهم يوم 7 يوليو لمقابلته، فقام العمال بفض الاعتصام مؤقتا لحين موعد اللقاء. ولكن في يوم 6 يوليو استدعى مساعد وزير الداخلية قادة الرابطة ليبلغهم بتأجيل الموعد لانشغال الوزير “بشرف مرافقة سلطان عمان”.

تصاعد غضب السائقين ليتوافدوا على مقر الرابطة صباح السابع من يوليو ليصبح إجمالي عددهم حوالي ألف سائق ومساعد. وحضر كبار المسئولين بالهيئة ووزارة الداخلية لإقناعهم بالانصراف، مدعومين بمحمود عطية رئيس النقابة العامة الذي ظهر للمرة الأولى في الأحداث. ولكن كل تلك المحاولات فشلت وانتقلت لهجة العمال من المناشدة إلى التهديد، لينذروا بالإضراب ووقف جميع القطارات إذا لم يتم اتخاذ خطوات حقيقية بشأن مطالب العمال.

وتحدد موعد الإضراب الساعة السادسة مساء يوم 7 يوليو 1986، ولما لم تستجب الإدارة لأي من مطالب العمال، بدأ الإضراب فعلا على كافة الخطوط. وقام السائقون بترك القطارات على الخطوط بعد إغلاق الجرارات وأخذ المفاتيح -الجرار له مفتاح واحد- لضمان تنفيذ الإضراب. وسرت أنباء بتحويل السكك في اتجاهات مختلفة عن خط السير واستخدام الجبس في تعطيل التحويلات، وكذلك الحرائق في الحشائش المحاذية لخطوط السكك الحديدية. وساعدت طبيعة عمل السكك الحديدية وما تتطلبه من خبرة ودقة على تقوية وضع السائقين وتدعيم موقفهم، ومكنتهم من تعميم الإضراب، كما قللت من قدرة الدولة على كسر الإضراب من داخله.

النهاية الوحشية وحركة التضامن

لكن في الفجر قامت قوات الأمن المركزي وفرق الكاراتيه باقتحام مقر الرابطة وفض الاعتصام بالقوة وبكل الوحشية المعتادة، وقامت بالقبض على كل الموجودين بالمقر وتوزيعهم على زنازين أقسام الشرطة بالقاهرة. ولم ينته الإضراب إلا بعد ملاحقة الأمن للقيادات العمالية والتنكيل بهم وتشريدهم، وفي نفس الوقت اضطرت الحكومة لتلبية معظم مطالب السائقين ووعدت بالنظر في بقيتها.

بعد ذلك بدأت تحركات العمال للتضامن مع زملائهم المعتقلين، فقد تبرع بعض العمال بالمكافأة التي صرفها وزير النقل عند انتهاء الإضراب لزملائهم المضربين. كما صدر بيان موقع باسم “السائقون الأحرار” يطالب بالإفراج عن المعتقلين ويهدد بالإضراب. وحاولت النقابة العامة إنقاذ ماء وجهها ومقاعدها، وبدأت تحت ضغط العمال في المطالبة بالإفراج عن المعتقلين والاستجابة لمطالبهم، ودعت كذلك إلى جمع تبرعات لصالح المعتقلين. فحتى النقابات الحكومية تجد نفسها تحت ضغط الحركة العمالية مضطرة لاتخاذ مواقف للدفاع عن العمال.

دروس مستفادة

لم يقف توزع العمال في السكك الحديدية عائقا أمام تنظيمهم في موقف واحد، حيث لعبت رابطة السائقين دورا هاما في تجميع وتعبئة العمال الموزعين على مختلف الخطوط. والدرس هنا أنه ليس مهم طبيعة التنظيم النقابي، ففي حالة التعددية النقابية، كما في حالة السكك الحديدية، أو في حالة الأحادية كما كان في وضع الحديد والصلب كان العامل الرئيسي والهام هو الحركة العمالية والضغط العمالي. فقط الضغط من أسفل باستطاعته أن يخلق تعددية نقابية مفيدة أو أن يدفع النقابات الموجودة لاتخاذ مواقف أكثر إيجابية.

درس آخر هو خطأ اقتصار الحركة على السائقين والمساعدين وعدم جذب عمال ورش الصيانة والموظفين الصغار وتبني مطالبهم. فالسائقين والمساعدين هم بلا شك القطاع الأكثر تقدما في السكك الحديدية وبالتالي فقد كانوا مؤهلين أكثر لقيادة باقي القطاعات بتوسيع نطاق الدعاية والتحريض. إلا أن توسيع جبهة الإضراب وتوسيع المشاركة فيه كانت ستعظم نتائج الإضراب وفرص نجاحه وتجعل مسألة تحطيمه أكثر صعوبة.

من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن الحركة أظهرت في أولها الكثير من الدقة والتنظيم، كما يتضح من تعطيل الخطوط واعتصام السائقين بمقر الرابطة، فقد عانت الحركة من عدم الدفاع فترة أطول عن الإضراب ومن عدم الاستعداد بشكل أفضل لمواجهة التدخل الأمنى بكافة أشكال الدعاية السياسية. وكذلك تأمين قادة الإضراب وخلق خطط بديلة. إن حسن النية تجاه الدولة وجهازها الأمني، مكنهما من السيطرة السريعة على حركة كان باستطاعتها أن تنتشر وأن تصبح بؤرة للغضب العمالي والجماهيري.

و سيظل إضراب عمال السكك الحديدية واعتصامهم خبرة عظيمة ليس فقط لعمال القطاع وإنما للطبقة العاملة المصرية بأسرها.

 

تاريخ من كوارث سكك حديد مصر

حوادث القطارات في مصر ليست بالجديدة ففي الخمسة عشر عاما الماضية شهدت مصر سلسلة من الحوادث الكبرى:

فبراير عام 1992 اصطدام قطارين خارج القاهرة ليخلفا وراءهما 43 قتيلا

ديسمبر 1993 تصادم بين قطارين على بعد90 كيلومترشمال القاهرة أدى إلى مقتل و إصابة 72 مواطنا

ديسمبر 1995 اصطدم قطار بمؤخرة قطار أخر ليلقى 75 مواطنا مصرعهم

فبراير 1997 قتل 11 مواطنا بسبب اصطدام قطارين شمال أسوان

أكتوبر 1998 قتل ما لا يقل عن 50 مواطنا و أصيب أكثر من 80 آخرين في حادث خروج قطار عن القضبان بالقرب من الإسكندرية

1 إبريل 1999 حادث تصادم وقع50 كيلومتر شمال القاهرة و أدى إلى مقتل عشرة أفراد وإصابة 50 آخرين

نوفمبر 1999 خرج احد القطارات عن القضبان مما أدى إلى إصابة 7 و وفاة 10 آخرين

2002 في ليلة وقفة عيد الأضحى حدثت أبشع وأضخم كوارث القطارات، حينما اشتعلت النيران في أحد القطارات قرب مدينة العياط 50 كيلو جنوب القاهرة. و قد لقي قرابة 300 مواطنا حتفهم حرقا وأصيب المئات.

و تختتم تلك السلسة بحادث قطاري قليوب والذي راح ضحيته ما يقرب من مائتي قتيل وجريح .

سكك حديد مصر معلومات أساسية


السكك الحديدية المصرية هي ثاني أقدم خطوط في العالم بعد نظيرتها البريطانية، حيث بدأت عملها في مصر عام ١٨٥١.

تمتد خطوط سير القطارات في مصر لمسافة ٩٥٠٠ كيلو متر، منها ٤ آلاف كيلو متر غير مستغلة.

تمتلك نحو ١٩٣ مليون متر من الأراضي، غالبيتها غير مستغلة.

تنقل قطارات السكك الحديدية علي مختلف خطوطها نحو 1.4 مليون راكب مصري يومياً.

يصل عدد محطات القطارات في مصر إلي نحو ٧٥٠ محطة، منها ٣٤ «رئيسية» و١٤٣ «متوسطة» و١٠٩ محطات في القري والنجوع والكفور.

يتحرك علي القضبان يومياً نحو ١٣٠٠ قطار في رحلات مختلفة بمحافظات مصر.

تحقق الهيئة القومية للسكك الحديدية صافي إيرادات يتخطي المليار جنيه سنوياً، ورغم ذلك فإن خسائرها تبلغ نحو 1.4 مليار جنيه في السنة.

يضم أسطول الهيئة نحو ٣ آلاف و٣٣٧ عربة قطار، ٥٠% منها خارج الخدمة، ويتضمن هذا العدد ٧٧٠ عربة مكيفة.

كما يضم الأسطول نحو ١٢ ألف عربة بضائع، ٧٠% منها خارج الخدمة، والباقي ينقل ١٢ ألف طن بضائع سنوياً فقط.

يوجد في مصر نحو ١٤٠٠ خط سكك حديدية «مزدوج»، يسير عليها نحو ١٢٠ قطاراً يومياً، بينما يوجد نحو ٣٠١٦ خطاً «فردياً»، يسير عليها ٦٠ قطاراً في اليوم.

يصل عدد مزلقانات السكك الحديدية إلي نحو ١٢٦١ مزلقاناً، منها ٣٣٣ تعمل بنظام الإشارات الضوئية، في حين لايزال الباقي يعمل بالنظام العادي.

تطوير مرفق السكك الحديدية المصري يحتاج ــ وفقاً لخطة وزارة النقل ــ إلي نحو 8.5 مليار جنيه، لإعادة تأهيل المجالات التالية:-

– الجرارات: يبلغ عددها في مصر نحو ٧٠١ جرار، ٧٠% منها تجاوز العمر الافتراضي منذ زمن.

– الشبكات الكهربائية: ١٥% فقط من خطوط السكك الحديدية في مصر تعمل بنظام الإشارات الكهربائية، وتبلغ مساحتها نحو ٥٨٥ كيلو متراً، مركزة في خطوط «الإسكندرية ــ القاهرة ــ بني سويف»، بينما الـ ٨٥% المتبقية تعمل بالنظام اليدوي، وتبلغ مساحتها نحو ٤٥٠٠ كيلو متر.

المصدر: إحصائية لوزارة النقل في مايو ٢٠٠٦

 

ماذا جلبت الخصخصة لأقدم سكك حديدية في العالم؟

 

خدمة السكك الحديدية في بريطانيا هي الأقدم في العالم. وقد تبدل على الخدمة في سنوات عمرها، التي تتجاوز مائة وخمسة سبعين عاما، القطاعان الخاص والعام. فقد بدأت الخدمة خاصة إلى أن اندلعت الحرب العالمية العالمية الثانية حينما سيطرت الحكومة على إدارتها في واحد من إجراءات الحرب. ثم عادت سكك حديد بريطانيا للقطاع الخاص في مطلع التسعينيات بعد معركة كبيرة وبعد سيادة منطق الخصخصة في عهد تاتشر، وهو عهد بدأ منذ الثمانينيات. لكن القصة أصبحت مضرب المثل في العالم في كيف تدمر الخصخصة الخدمات العامة.. قصة تحرص الطبقات الحاكمة على تجاهلها عادة.

المنطق وراء خصخصة خدمة السكك الحديدية في بريطانيا كان مبنيا على التراجع الشديد في خدمة العملاء وزمن التقاطر واحتياج الخدمة لاستثمارات كبيرة “لتحديثها”، قالت الدولة إنها غير قادرة على تقديمها. ويشار هنا إلى أنه حتى نقاد إدارة القطاع العام لمثل هذه الخدمات كانوا يعترفون بأنه وإن كان هناك تراجع في خدمة العملاء إلا أن الجانب الفني الهندسي كان جيدا. خصخصة سكك حديد بريطانيا استغرقت وقتا طويلا حتى وجدت سبيلها للتحقق في 1996 بعد ثلاث سنوات من صدور قانون جديد يسمح ببيعها في 1993. وحينما انطلق أول قطار في ظل القطاع الخاص في الرابع من فبراير 1996 قال وزير المواصلات البريطاني السير جورج يونج إن الصفقة جيدة لدافعي الضرائب (أي من يمولون ميزانية الدولة، لأنهم سيدفعون أقل مقابل خدمة أفضل على أساس أن الدولة ستوجه أموالهم لبنود أخرى)، وأيضا للمستهلكين من مستخدمي القطارات.

بالطبع لم يحدث ذلك. وفي عام ألفين وقعت حادثة كشفت كل شيء للجميع. فقد قارب نظام النقل بالسكك الحديدية على الانهيار تقريبا بحلول نهاية العام، بعد أن شهد أكتوبر حادث خروج قطار عن القضبان قتل فيه أربعة وجرح ثلاثون (أعقبها في فبراير التالي حادث آخر قتل فيه 17 وجرح سبعون). وفتحت الحادثة ملف المقارنات والتقييم. فقد كشفت أولا عن سوء التنسيق البالغ بين الخمس وعشرين شركة خاصة التي تدير الخطوط وبينها جميعا وبين الشركة المسئولة عن صيانة وتطوير البنية الأساسية. وثانيا عن أن الشركات الخاصة لم تضخ أي استثمارات في الخطوط والقطارات وهو ما كان المبرر الأول لوجودها. الأكثر من ذلك هو أن الدولة (من أموال دافعي الضرائب) استمرت في ضخ ملياري جنيه استرليني سنويا (بزيادة عشرة في المائة عما كان الأمر عليه قبل الخصخصة) ارتفعت إلى خمسة مليارات في عام ألفين وخمسة، تذهب بالأساس لبنود الربحية في الشركات الخاصة. وبدلا من أن تقوم الشركات الخاصة مدفوعة بهذه الأرباح بتطوير الخدمات لجذب عملاء جدد عبر إعادة هيكلة خدمة العملاء وتطوير القطارات والبنية الأساسية، فإن الشركات الساعية للربح فضلت الأرباح قصيرة الأجل، وهي استراتيجية ليست محل خلاف في عالم الأعمال. فقد تحولت العوائد الربع سنوية ومضاعفتها للهدف الأول للإدارات عموما في وقت قد تؤثر فيه استثمارات طويلة الأجل كالتي تحتاجها عادة السكك الحديدية على تقليص الأرباح لأجيال. وهو سبب بالمناسبة كان تقليديا وراء أهمية وجود الدولة في هذه الخدمة.

الأكثر من هذا هو أن الشركات الخاصة ركزت على تمويل فرق مالية لإدارة استراتيجياتها المالية ودفعت لهم مرتبات طائلة على حساب الفنيين والمهندسين في أجورهم وتدريبهم وهو ما نتج عنه ارتفاع في معدلات الحوادث على الخطوط.

وبالعودة مرة أخرى لوعود السير يونج الخاصة بالمستهلك، نجد أن الأرقام الرسمية تقول إنه برغم زيادة عدد الركاب ثلاثين في المائة في هذه السنوات (مولدين المزيد من الأرباح للشركات) فإن معدلات انتظام القطارات تراجعت من 92.78% في عهد القطاع العام إلى 91.57% في عام ألفين. وتراجعت مستويات الخدمة على القطارات بشدة. ولم تتراجع أسعار التذاكر بشكل ملموس كما قالت الوعود. والملفت هنا هو أن هذه التجربة المؤلمة لم تردع حكومة العمال بقيادة بلير عن الدفاع عن خطط خصخصة جزئية لمترو الأنفاق في دليل جديد على الانفصام بين الخصخصة والمصلحة العامة.

لكن الخلاصة التي يمكن الخروج بها لمصر هنا هي كما تقولها جريدة الهيرالد تريبيون (وهي بالمناسبة جريدة لا راديكالية ولا يسارية ولا معادية للخصخصة) في مقال نشر فيها في مطلع عام ألفين وواحد تحت عنوان “خصخصة الخدمات العامة يمكن أن تكون كارثة”، إن الإصلاح الصعب للخدمات العامة التي تديرها الدولة قد يصعب أصعب كثيرا لو أن العامل الحاكم في الإدارة هو مراكمة معدلات الأرباح.

شكرا على تعليقاتكم